ثقافة

مآتم العنصريّة … ليالي عرسها وحفلات خطوبتها

ذات يوم من نهايات عام 1975 اتخذت الجمعية العمومية للأمم المتحدة قرارا يعتبر «أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصريّ»، وحثّ القرار العالم على الوقوف في وجه الأيديولوجية الصهيونية باعتبارها تشكل خطرًا على الأمن العالمي وسِلْمه، وبعد ستة عشر عاما، في أيلول/ديسمبر 1991 تم إلغاء هذا القرار الأممي لأن الكيان الصهيوني اشترط ذلك لكي يقبل بالمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام.
كل هذه معلومات تاريخية، لكن فعل الإلغاء نفسه تمّ التعامل معه، ومع أوسلو فيما بعد، كنبتة شيطانية أنبتها فِعل جهنّمي لا يُعرف من هو، أو على الأقل هناك من محا اسم الفاعل وجعل الفعل مبنيا للمجهول، فأصبحنا نسمع «وقِّعتْ اتفاقية أوسلو»، وكأنها وقَّعت نفسها بنفسها، و»أُلغي قرار الأمم المتحدة حول الصهيونية»، وهكذا.
في ظني أن فلسطين لن تتقدم ولن تصل إلى حقّها إن لم تضع بشجاعة النقاط على الحروف، بأن تعترف أن الرجل الأقوى في منظمة التحرير، ياسر عرفات (ولكل زعيم ما له وما عليه)، هو من وقع الاتفاقية، وهو من رضيَ بإلغاء قرار الأمم المتحدة بشأن الصهيونية شرطًا لمؤتمر مدريد، وهذا ما لم يحدث حتى بعد توقيع مصر لاتفاقية السلام المشينة مع ذلك الكيان، وهذا لا يعفي مصر من كونها وقّعت اتفاقية سلام مع كيان عنصري مدان أمميّا في ذلك الوقت «يشكل خطرا على الأمن والسِّلْم العالمي».
يوم الثلاثاء الماضي، أعاد الضمير العالمي الأمور إلى نصابها في تقريره غير القابل للمحو، باعتبار الكيان الصهيوني نظام فصل عنصري ارتكب ويرتكب جرائم ضد الإنسانية، بـ»الاستيلاء الهائل على الأراضي والممتلكات الفلسطينية، وأعمال القتل غير المشروعة، والنقل القسري، والقيود الشديدة على حرية التنقل، وحرمان الفلسطينيين من حقوق المواطنة والجنسية، وهذه تشكّل جزءا من نظام يرقى إلى مستوى «الفصل العنصري» بموجب القانون الدولي، وطالبت منظمة العفو الدولية المحكمة الجنائية الدولية النظر في «جريمة الفصل العنصري» في سياق تحقيقاتها الحالية في الأراضي الفلسطينية، كما ناشدت جميع الدول بممارسة الولاية القضائية الشاملة وتقديم مرتكبي جرائم الفصل العنصري إلى العدالة».
اللافت أيضا أن التقرير الأممي الجديد تعامل بوضوح مع «حرمان اللاجئين من حقّ العودة» باعتباره شكلا من أشكال الفصل العنصري، وهي إشارة تعني كل فلسطيني هجَّرته الصهيونية من أرضه، وبالتالي حقه في العودة إلى وطنه، وهنا بالذات يمكن أن نقرأ من جديد اجتماع محمود عباس الأخير مع وزير الحرب الصهيوني بيني غانتس، الذي شهد مسرحية تبادل الهدايا التراجيدية، حيث وافق الصهاينة على «الاعتراف بوضع 6000 فلسطيني في الضفة الغربية و3500 في قطاع غزة، لأسباب إنسانية»، وذلك بالموافقة على لمّ شمل هؤلاء إلى عائلاتهم (كأن هذه اللفتة هي حقّ العودة). في حين أكّد عباس استمرار التنسيق الأمني وملاحقة المقاومة في الضفة الغربية!
وحين تشير هذه السطور إلى حق العودة في تقرير أمنستي باعتباره أمرا لافتا، تشير إلى أن اتفاق عباس- غانتس، كان أشبه بمناورة صهيونية لاستباق تقرير منظمة العفو الدولية، حيث عبّر يائير لابيد وزير الخارجية في الكيان الصهيوني بعده، عن مخاوف حكومته من إمكانية وصف إسرائيل بـ»العنصرية» من قِبل محكمة الجنايات الدولية والأمم المتحدة، وعزل إسرائيل وحرمانها من المشاركة في الفعاليات الدولية كنوع من العقاب على جرائمها تجاه الفلسطينيين، وقال إن إسرائيل ستواجه اتهامات بالفصل العنصري في عام 2022.
التقرير التاريخي لأمنستي، حسم الأمر، بعد تقارير سابقة ومواقف شجاعة لشخصيات ذات تأثير عالمي، صرّحتْ بذلك ووقفتْ مع الفلسطينيين وصمدتْ في وجه هجمات صهيونية عاتية. ولذا، فإن هذا التقرير بقدر ما هو تقرير يدافع عن إنسانية البشر، بقدر ما يدين هذا الكيان وينتصر لفلسطين من نهرها إلى بحرها بوضوح كامل، ويحيي الشجاعات والشجعان الذين رفعوا أصواتهم وقاوموا إرهاب الصهيونية بكل أشكاله، كما يدين ذلك الشّرط الصهيوني للذهاب إلى مدريد، شرط نزع صفة العنصرية عن الصهيونية.
القادم أعظم بالتأكيد.. فبعيدا عن فرح السلطة الفلسطينية وتهليلها لتقرير أمنستي الجديد، يبقى امتحانها قائما في خطواتها التالية لصدور هذا التقرير، وهل ستستمر في التعاون مع، والرضوخ لـ كيان عنصري و»هجومه الممنهج والواسع النطاق» ضد الشعب الفلسطيني، وهي بذلك ستضع نفسها في قفص الاتهام بسبب تعاونها مع كيان بات مطلوبا للمحاكم الدولية؟ هل ستخفف من حدة التقرير بالقبول بلقاءات شكلية بينها وبين القادة العنصريين لم تسفر، منذ أوسلو، إلا عن منح هذا الكيان المتوحش الوقت الكافي لابتلاع كل ما في طريقه من بشر وحجر وأرض وماء وهواء وكرامة. في حين يطالب فيه التقرير بمقاطعة هذا الكيان وفرض عقوبات على مجرمي الحرب والداعمين للتمييز العنصري والممارسين له، وهذا ما لن يفلتَ منه أولئك الذين يتعاونون مع نظام الفصل العنصري أو الذين يقومون بمدّه بوسائل ممارسة العنصرية، قتلا واعتقالا وهدما للبيوت وحشرا للفلسطينيين في سجنهم الكبير.
لقد وقّع النظام المصري اتفاقية سلامه المريض في زمن كانت فيه الصهيونية حركة عنصرية، ووقّع النظام الأردني والقيادة الفلسطينية على ذلك بعد نزع هذه الصفة، والآن، يعيش نظام أبو ظبي بالذات، ليلة عقد قرانه مع كيان فصل عنصري عبر احتفالات غير مسبوقة، وكذلك نظام البحرين، وبقية الدول التي تمهد لإعلان خطوبتها مع الكيان الوحيد في العالم اليوم، الذي يحمل هذه الصفة، فما مصير كل هؤلاء بعد هذا التقرير؟
من الواضح أن البشر لن يقبلوا بهذا الظلم الواقع عليهم في مجالات لا حصر لها، لن يقبلوا بأن يكونوا ضحايا قوى كبرى مفتونة بالتنافس على حصيلة القتل والهيمنة والإفقار والإذلال التي تمارسها كل قوة منها.
هذا التقرير كان أشبه بحلم ذات يوم، أو بخيال متطاول ينشد المستحيل، لكنه الآن أصبح حقيقة، كما أن حلم الإفلات من العقاب الذي يتسلح به اليوم العنصريون الصهاينة وكيانهم، ومن يحالفهم ويدعم وجودهم بالاعتراف بهم عبر اتفاقيات «السلام» أو بإقامة التحالفات الاقتصادية والعسكرية معهم، ودعم رواية الوحش باعتباره أصل الوجود وضحاياه العلف الذي لا بدّ منه لكي يستمر؛ أصحاب هذا الحلم الوحشي سيجدون أيضا أنفسهم، مستقبلا، مطاردين ومطلوبين للمحاكم الدولية، بل في الأقفاص نفسها جبنا إلى جنب مع هذا الوحش، والتقرير يحذر بوضوح الحكومات التي تواصل تزويد إسرائيل بالأسلحة وتحميها من المساءلة في الأمم المتحدة باعتبارها «تساند نظام فصل عنصري، وتقوّض النظام القانوني الدولي، وتفاقم معاناة الشعب الفلسطيني».
هل سيعيد هؤلاء المتورطون حساباتهم من جديد؟ لا أظن ذلك، فالتهافت الأعمى لا عيون له ولا قلب ولا عقل.

إبراهيم نصر الله

زر الذهاب إلى الأعلى